فصل: تقادم الحقّ في التّضمين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


ضمان الدّماء - الأنفس والجراح

80 - ضمان الدّماء أو الأنفس هو‏:‏ الجزاء المترتّب على الضّرر الواقع على النّفس فما دونها‏.‏

ويشمل القصاص والحدود، وهي مقدّرة، كما يشمل التّعزير و حكومة العدل وهي غير مقدّرة من جهة الشّارع‏.‏

ويقسّم الضّمان - بحسب الجناية - إلى ثلاثة أقسام‏:‏

أ - ضمان الجناية على النّفس‏.‏

ب - ضمان الجناية على ما دون النّفس، من الأطراف والجراح‏.‏

ج - ضمان الجناية على الجنين، وهي‏:‏ الإجهاض‏.‏

وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ ضمان الجناية على النّفس

يتمثّل فيما يلي، باعتبار أنواعها‏:‏

القتل العمد

81 - القتل العمد، إذا تحقّقت شروطه، فضمانه بالقصاص‏.‏

‏(‏ر‏:‏ مصطلح‏:‏ قتل، قصاص‏)‏‏.‏

وأوجب الشّافعيّة وآخرون الكفّارة فيه أيضاً‏.‏

فإن امتنع القصاص، أو تعذّر أو صالح عنه، كان الضّمان بالدّية أو بما صولح عنه‏.‏

‏(‏ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ديات‏)‏‏.‏

ويوجب المالكيّة حينئذ التّعزير، كما يوجبون في القتل غيلةً - القتل على وجه المخادعة والحيلة - قتل القاتل تعزيراً، إن عفا عنه أولياء المقتول‏.‏

كما يحرم القاتل من ميراث المقتول ووصيّته‏.‏

القتل الشّبيه بالعمد

82 - هو‏:‏ القتل بما لا يقتل في الغالب - عند الجمهور - وبالمثقلات كذلك - عند أبي حنيفة، من غير الحديد والمعدن - وإن كان المالكيّة يرون هذا من العمد‏.‏

وهو مضمون بالدّية المغلّظة في الحديث‏:‏ » ألا وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد، ما كان بالسّوط والعصا، مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها «‏.‏

القتل الخطأ

83 - وهو مضمون بالدّية على العاقلة اتّفاقاً بالنّصّ الكريم، وفيه كذلك الكفّارة والحرمان من الإرث والوصيّة وهذا لعموم النّصّ‏.‏

والضّمان كذلك في القتل الشّبيه بالخطأ في اصطلاح الحنفيّة، ويتمثّل بانقلاب النّائم على شخص فيقتله، أو انقلاب الأمّ على رضيعها فيموت بذلك‏.‏

القتل بسبب

84 - قال به الحنفيّة، ويتمثّل بما لو حفر حفرةً في الطّريق، فتردّى فيها إنسان فمات‏.‏ وهو مضمون بالدّية فقط، عندهم، فلا كفّارة فيه، ولا حرمان، لانعدام القتل فيه حقيقةً، وإنّما أوجبوا الدّية صوناً للدّماء عن الهدر‏.‏

والجمهور من الفقهاء، يلحقون هذا النّوع من القتل بالخطأ في أحكامه، ديةً، وكفّارةً، وحرماناً، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل‏.‏

وللتّفصيل ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏قتل وديات وجناية‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ ضمان الجناية على ما دون النّفس

وتتحقّق في الأطراف، والجراح في غير الرّأس، وفي الشّجاج‏.‏

85 - أ - أمّا الأطراف‏:‏ فحدّدت عقوبتها بالقصاص بالنّصّ، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ‏}‏‏.‏

وزاد مالك على ذلك التّعزير بالتّأديب، ليتناهى النّاس‏.‏

فإذا امتنع القصاص، بسبب العفو أو الصّلح أو لتعذّر المماثلة، كان الضّمان بالدّية والأرش، وهو‏:‏ اسم للواجب من المال فيما دون النّفس‏.‏

‏(‏ر‏:‏ جناية على ما دون النّفس‏)‏‏.‏

86 - ب - وأمّا الجراح‏:‏ فخاصّة بما كان في غير الرّأس، فإذا كانت جائفةً، أي بالغة الجوف، فلا قصاص فيها اتّفاقاً، خشية الموت‏.‏

وإذا كانت غير جائفة، ففيها القصاص عند جمهور الفقهاء في الجملة خلافاً للحنفيّة الّذين منعوا القصاص فيها مطلقاً لتعذّر المماثلة‏.‏

فإن امتنع القصاص في الجراح، وجبت الدّية‏:‏ ففي الجائفة يجب ثلث الدّية، لحديث‏:‏ » في الجائفة ثلث العقل «‏.‏

وفي غير الجائفة حكومة عدل، وفسّرت بأنّها أجرة الطّبيب وثمن الأدوية‏.‏

وللتّفصيل راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏جراح، وحكومة عدل‏)‏‏.‏

87 - ج - وأمّا الشّجاج‏:‏ وهي ما يكون من الجراح في الوجه والرّأس فإن تعذّر القصاص فيها‏:‏ ففيه الأرش مقدّراً، كما في الموضحة، لحديث‏:‏ » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الموضحة، خمس من الإبل «‏.‏

وقد يكون غير مقدّر، فتجب الحكومة‏.‏

ومذهب الجمهور‏:‏ أنّ ما دون الموضحة، ليس فيه أرش مقدّر، لما روي‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء «‏.‏ فتجب فيه الحكومة‏.‏

ومذهب أحمد أنّه ورد التّقدير في أرش الموضحة، وفيما دونها، كما ورد فيما فوقها فيعمل به‏.‏

وللتّفصيل ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏شجاج، ديات، حكومة عدل‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ ضمان الجناية على الجنين

88 - وهي الإجهاض، فإذا سقط الجنين ميّتاً بشروطه، فضمانه بالغرّة اتّفاقاً، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان، بغرّة عبد أو أمة «‏.‏

وتجب عند الجمهور في مال العاقلة خلافاً للمالكيّة والحنابلة الّذين أوجبوها في مال الجاني‏.‏ ولا كفّارة فيها عند الحنفيّة، وإنّما تندب، وأوجبها الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الجنين آدميّ معصوم، وإذا لم توجد الرّقبة، انتقلت العقوبة إلى بدلها مالاً، وهو‏:‏ نصف عشر دية الرّجل، وعشر دية المرأة‏.‏

‏(‏ر‏:‏ جنين، غرّة‏)‏‏.‏

ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال

89 - تتمثّل الأفعال الضّارّة بالأموال في الإتلافات الماليّة، والغصوب، ونحوها‏.‏

ولضمان هذا النّوع من الأفعال الضّارّة، أحكام عامّة، وأحكام خاصّة‏:‏

أوّلاً‏:‏ الأحكام العامّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال

90 - تقوم فكرة هذا النّوع من الضّمان - خلافاً لما تقدّم في ضمان الأفعال الضّارّة بالأنفس - على مبدأ جبر الضّرر المادّيّ الحائق بالآخرين، أمّا في تلك فهو قائم على مبدأ زجر الجناة، وردع غيرهم‏.‏

والتّعبير بالضّمان عن جبر الضّرر وإزالته، هو التّعبير الشّائع في الفقه الإسلاميّ، وعبّر بعض الفقهاء من المتأخّرين بالتّعويض، كما فعل ابن عابدين‏.‏

وتوسّع الفقهاء في هذا النّوع في أنواع الضّمان وتفصيل أحكامه، حتّى أفرده البغداديّ بالتّصنيف في كتابه‏:‏ مجمع الضّمانات‏.‏

ومن أهمّ قواعد الضّمان قاعدة‏:‏ الضّرر يزال‏.‏

وإزالة الضّرر الواقع على الأموال يتحقّق بالتّعويض الّذي يجبر فيه الضّرر‏.‏

وقد عرّف الفقهاء الضّمان بهذا المعنى، بأنّه‏:‏ ردّ مثل الهالك أو قيمته‏.‏

وعرّفه الشّوكانيّ بأنّه‏:‏ عبارة عن غرامة التّالف‏.‏

وكلا التّعريفين يستهدف إزالة الضّرر، وإصلاح الخلل الّذي طرأ على المضرور، وإعادة حالته الماليّة إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضّرر‏.‏

طريقة التّضمين

91 - القاعدة العامّة في تضمين الماليّات هي‏:‏ مراعاة المثليّة التّامّة بين الضّرر، وبين العوض، كلّما أمكن، قال السّرخسيّ‏:‏ ‏"‏ ضمان العدوان مقدّر بالمثل بالنّصّ ‏"‏ يشير إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ‏}‏‏.‏

والمثل وإن كان به يتحقّق العدل، لكن الأصل أن يردّ الشّيء الماليّ المعتدى فيه نفسه، كلّما أمكن، ما دام قائماً موجوداً، لم يدخله عيب ينقص من منفعته، وهذا الحديث الحسن، عن سمرة رضي الله تعالى عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «‏.‏

بل هذا هو الموجب الأصليّ في الغصب، الّذي هو أوّل صور الضّرر وأهمّها‏.‏

فإذا تعذّر ردّ الشّيء بعينه، لهلاكه أو استهلاكه أو فقده، وجب حينئذ ردّ مثله، إن كان مثليّاً، أو قيمته إن كان قيميّاً‏.‏

والمثليّ هو‏:‏ ما له مثل في الأسواق، أو نظير، بغير تفاوت يعتدّ به، كالمكيلات، والموزونات، والمذروعات، والعدديّات المتقاربة‏.‏

والقيميّ هو‏:‏ ما ليس له مثل في الأسواق، أو هو ما تتفاوت أفراده، كالكتب المخطوطة، والثّياب المفصّلة المخيطة لأشخاص بأعيانهم‏.‏

والمثل أعدل في دفع الضّرر، لما فيه من اجتماع الجنس والماليّة‏.‏

والقيمة تقوم مقام المثل، في المعنى والاعتبار الماليّ‏.‏

وقت تقدير التّضمين

92 - تناول الفقهاء هذه المسألة، في المغصوب - على التّخصيص - إذا كان مثليّاً، وفقد من السّوق، وقد اختلفت أنظارهم فيها على الوجه التّالي‏:‏

ذهب أبو يوسف‏:‏ إلى اعتبار القيمة يوم الغصب، لأنّه لمّا انقطع من السّوق التحق بما لا مثل له، فتعتبر قيمته يوم انعقاد السّبب، وهو الغصب، كما أنّ القيميّ تعتبر قيمته كذلك يوم الغصب‏.‏

وذهب محمّد‏:‏ إلى اعتبار القيمة يوم الانقطاع، لأنّ الواجب هو المثل في الذّمّة وإنّما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع‏.‏

ومذهب أبي حنيفة‏:‏ اعتبار القيمة يوم القضاء، لأنّ الواجب هو المثل، ولا ينتقل إلى القيمة بمجرّد الانقطاع، لأنّ للمغصوب منه أن ينتظر حتّى يوجد المثل، بل إنّما ينتقل بالقضاء، فتعتبر القيمة يوم القضاء‏.‏

أمّا القيميّ إذا تلف، فتجب قيمته يوم الغصب اتّفاقاً‏.‏

أمّا في الاستهلاك‏:‏ فكذلك عند الإمام وعندهما يوم الاستهلاك‏.‏

ومذهب المالكيّة‏:‏ أنّ ضمان القيمة يعتبر يوم الغصب والاستيلاء على المغصوب سواء أكان عقاراً، أم غيره، لا يوم حصول المفوّت، ولا يوم الرّدّ، وسواء أكان التّلف بسماويّ أم بجناية غيره عليه‏.‏

وفي الإتلاف والاستهلاك - في غير المثليّات - كالعروض والحيوان، تعتبر يوم الاستهلاك والإتلاف‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ المثليّ إذا تعذّر وجوده، في بلده وحواليه تعتبر أقصى قيمة، من وقت الغصب إلى تعذّر المثل، وفي قول إلى التّلف، وفي قول إلى المطالبة‏.‏

وإذا كان المثل مفقوداً عند التّلف، فالأصحّ وجوب أكثر القيم من وقت الغصب إلى التّلف، لا إلى وقت الفقد‏.‏

وأمّا المتقوّم فيضمن في الغصب بأقصى قيمة من الغصب إلى التّلف‏.‏

وأمّا الإتلاف بلا غصب، فتعتبر قيمته يوم التّلف، لأنّه لم يدخل في ضمانه قبل ذلك، وتعتبر في موضع الإتلاف، إلاّ إذا كان المكان لا يصلح لذلك كالمفازة، فتعتبر القيمة في أقرب البلاد‏.‏

ومذهب الحنابلة‏:‏ أنّه يجب ردّ قيمة المغصوب، إن لم يكن مثليّاً، يوم تلفه في بلد غصبه من نقده، لأنّ ذلك زمن الضّمان وموضع الضّمان ومنصرف اللّفظ عند الإطلاق – كالدّينار- كما يقول البهوتيّ إن لم تختلف قيمة التّالف، من حين الغصب إلى حين الرّدّ‏.‏ فإن اختلفت لمعنىً في التّالف من كبر وصغر وسمن وهزال - ونحوها - ممّا يزيد في القيمة وينقص منها، فالواجب ردّ أكثر ما تكون عليه القيمة من حين الغصب إلى حين الرّدّ، لأنّها مغصوبة في الحال الّتي زادت فيها، والزّيادة مضمونة لمالكها‏.‏

وإن كان المغصوب مثليّاً يجب ردّ مثله، فإن فقد المثل، فتجب القيمة يوم انقطاع المثل، لأنّ القيمة وجبت في الذّمّة حين انقطاع المثل، فاعتبرت القيمة حينئذ، كتلف المتقوّم‏.‏ وقال القاضي‏:‏ تجب قيمته يوم قبض البدل، لأنّ الواجب هو المثل، إلى حين قبض البدل، بدليل أنّه لو وجد المثل بعد فقده، لكان الواجب هو المثل دون القيمة، لأنّه الأصل، قدر عليه قبل أداء البدل، فأشبه القدرة على الماء بعد التّيمّم‏.‏

تقادم الحقّ في التّضمين

93 - التّقادم - أو مرور الزّمان - هو‏:‏ مضيّ زمن طويل، على حقّ أو عين في ذمّة إنسان، لغيره دون مطالبة بهما، مع قدرته عليها‏.‏

والشّريعة - بوجه عامّ - اعتبرت التّقادم مانعاً من سماع الدّعوى، في الملك وفي الحقّ، مع بقائهما على حالهما السّابقة، ولم تعتبره مكسباً لملكيّة أو قاطعاً لحقّ‏.‏

فيقول الحصكفيّ‏:‏ القضاء مظهر لا مثبت، ويتخصّص بزمان ومكان وخصومة حتّى لو أمر السّلطان بعدم سماع الدّعوى، بعد خمس عشرة سنةً، فسمعها القاضي، لم ينفذ‏.‏

ونقل ابن عابدين عن الأشباه وغيرها، أنّ الحقّ لا يسقط بتقادم الزّمان‏.‏

فبناءً على هذا يقال‏:‏ إذا لم يرفع الشّخص المضرور دعوى، يطالب فيها بالضّمان أو التّعويض عن الضّرر، ممّن ألحقه به، مدّة خمسة عشر عاماً، سقط حقّه، قضاءً فقط لا ديانةً، في إقامة الدّعوى من جديد، إلاّ إذا كان المضرور غائباً، أو كان مجنوناً أو صبيّاً وليس له وليّ، أو كان المدّعى عليه حاكماً جائراً، أو كان ثابت الإعسار خلال هذه المدّة، ثمّ أيسر بعدها، فإنّه يبقى حقّه في إقامة الدّعوى قائماً، مهما طال الزّمن بسبب العذر، الّذي ينفي شبهة التّزوير‏.‏

وكذلك إذا أمر السّلطان العادل نفسه بسماع هذه الدّعوى، بعد مضيّ خمسة عشر عاماً أو سمعها بنفسه - كما يقول ابن عابدين - حفظاً لحقّ المضرور، إذا لم يظهر منه ما يدلّ على التّزوير‏.‏

وكذلك إذا أقرّ الخصم بحقّ المضرور في الضّمان، والتّعويض عن الضّرر، بعد مضيّ هذه المدّة، فإنّه يتلاشى بذلك مضيّ الزّمن ويسقط لظهور الحقّ بإقراره وهذا كما جاء في كتب الحنفيّة‏.‏

ثانياً‏:‏ الأحكام الخاصّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال

94 - قد ذكرنا أنّ القاعدة في الضّمان، هي ردّ العين أصلاً، وإذا تعذّر ردّ العين، وجب الضّمان بردّ المثل في المثليّات، ودفع القيمة في القيميّات‏.‏

ونذكر - هنا - التّضمين في أحوال خاصّة مستثناة من الأصل، إذ يحكم فيها بالتّعويض الماليّ أحياناً، وبالتّخيير بينه وبين ضمان المثل في أحيان أخرى، وهي‏:‏ قطع الشّجر، وهدم المباني، والبناء على الأرض المغصوبة، أو الغرس فيها، وقلع عين الحيوان، وتفصيل القول فيها كما يلي‏:‏

أ - قطع الشّجر‏:‏

95 - لو قطع شخص لآخر، شجر حديقته، ضمن قيمة الشّجر، لأنّه ليس بمثليّ‏.‏ وطريق معرفته‏:‏ أن تقوّم الحديقة مع الشّجر القائم، وتقوّم بدونه فالفضل هو قيمته، فالمالك مخيّر بين أن يضمّنه تلك القيمة، ويدفع له الأشجار المقطوعة، وبين أن يمسكها، ويضمّنه نقصان تلك القيمة‏.‏

ولو كانت قيمة الأشجار مقطوعةً وغير مقطوعة سواء، برئ‏.‏

ولو أتلف شجرةً من ضيعة، ولم يتلف به شيء، قيل‏:‏ تجب قيمة الشّجرة المقطوعة، وقيل تجب قيمتها نابتةً، ولو أتلف شجرةً، قوّمت مغروسةً وقوّمت مقطوعةً، ويغرم ما بينهما‏.‏

ولو أتلف ثمارها، أو نفضها لمّا نوّرت، حتّى تناثر نورها، قوّمت الشّجرة مع ذلك، وقوّمت بدونها فيغرم ما بينهما، وكذا الزّرع‏.‏

ب - هدم المباني‏:‏

96 - إذا هدم إنسان بناءً أو جداراً لغيره، يجب عليه بناء مثله، وهذا عند أبي حنيفة والشّافعيّ، فإن تعذّرت المماثلة رجع إلى القيمة، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » كان رجل في بني إسرائيل يقال له‏:‏ جريج، يصلّي، فجاءته أمّه فدعته، فأبى أن يجيبها، فقال‏:‏ أجيبها أو أصلّي‏؟‏ ثمّ أتته فقالت‏:‏ اللّهمّ لا تمته حتّى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته فقالت امرأة‏:‏ لأفتننّ جريجاً، فتعرّضت له، فكلّمته، فأبى‏.‏ فأتت راعياً فأمكنته من نفسها‏.‏ فولدت غلاماً، فقالت‏:‏ هو من جريج‏.‏ فأتوه كسروا صومعته وأنزلوه وسبّوه، فتوضّأ وصلّى، ثمّ أتى الغلام فقال‏:‏ من أبوك يا غلام‏؟‏ قال‏:‏ الرّاعي‏.‏ قالوا‏:‏ نبني صومعتك من ذهب، قال‏:‏ لا، إلاّ من طين «‏.‏

والأصل‏:‏ أنّ الحائط والبناء من القيميّات، فتضمن بالقيمة‏.‏

وقد نقل الرّمليّ الحنفيّ أنّه لو هدم جدار غيره، تقوّم داره مع جدرانها، وتقوّم بدون هذا الجدار فيضمن فضل ما بينهما‏.‏

وفي القنية عن محمّد بن الفضل‏:‏ إذا هدم حائطاً متّخذاً من خشب أو عتيقاً متّخذاً من رهص - طين - يضمن قيمته، وإن كان حديثاً يؤمر بإعادته كما كان‏.‏

وقال ابن نجيم‏:‏ من هدم حائط غيره فإنّه يضمن نقصانها - أي قيمتها مبنيّةً - ولا يؤمر بعمارتها، إلاّ في حائط المسجد، كما في كراهة الخانيّة‏.‏

لكن المذهب، ما قاله العلامة قاسم في شرحه للنّقاية‏:‏ وإذا هدم الرّجل حائط جاره فللجار الخيار‏:‏ إن شاء ضمّنه قيمة الحائط، والنّقض للضّامن، وإن شاء أخذ النّقض، وضمّنه النّقصان، لأنّ الحائط قائم من وجه، وهالك من وجه، فإن شاء مال إلى جهة القيام، وضمّنه النّقصان، وإن شاء مال إلى جهة الهلاك وضمّنه قيمة الحائط، وليس له أن يجبره على البناء، كما كان، لأنّ الحائط ليس من ذوات الأمثال‏.‏

وطريق تقويم النّقصان‏:‏ أن تقوّم الدّار مع حيطانها، وتقوّم بدون هذا الحائط فيضمن فضل ما بينهما‏.‏

والضّمان في هذه الحال مقيّد بما إذا لم يكن الهدم للضّرورة، كمنع سريان الحريق، بإذن الحاكم، فإن كان كذلك فلا ضمان، وإن لم يكن بإذن الحاكم، ضمن الهادم قيمتها معرّضةً للحريق‏.‏

ج - البناء على الأرض المغصوبة أو الغرس فيها‏:‏

97 - إذا غرس شخص شجراً، أو أقام بناءً على أرض غصبها، فمذهب جمهور الفقهاء، وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة أنّه يؤمر بقلع الشّجر، وهدم البناء، وتفريغ الأرض من كلّ ما أنشأ فيها، وإعادتها كما كانت‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم فيه خلافاً وذلك‏:‏ لحديث عروة بن الزّبير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له، وليس لعرق ظالم حقّ «، قال‏:‏ فلقد أخبرني الّذي حدّثني هذا الحديث‏:‏ » أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النّخل أن يخرج نخله منها، قال‏:‏ فلقد رأيتها، وإنّها لتضرب أصولها بالفؤوس، وإنّها لنخل عمّ « أي طويلة‏.‏

ولأنّه شغل ملك غيره، فيؤمر بتفريغه، دفعاً للظّلم، وردّاً للحقّ إلى مستحقّه‏.‏

قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ عليه أرش نقصها إن كان، وتسويتها، لأنّه ضرر حصل بفعله، مع أجرة المثل إلى وقت التّسليم‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ وللغاصب قلعهما قهراً على المالك، ولا يلزمه إجابة المالك لو طلب الإبقاء بالأجر، أو التّملّك بالقيمة، وللمالك قلعهما جبراً على الغاصب، بلا أرش لعدم احترامهما عليه‏.‏

والمالكيّة خيّروا المالك بين قلع الشّجر وهدم البناء، وبين تركهما، على أن يعطى المالك الغاصب، قيمة أنقاض الشّجر والبناء، مقلوعاً، بعد طرح أجرة النّقض والقلع، لكنّهم قيّدوا قلع الزّرع بما إذا لم يفت، أي لم يمض وقت ما تراد الأرض له فله عندئذ أخذه بقيمته مقلوعاً مطروحاً منه أجرة القلع‏.‏ فإن فات الوقت، بقي الزّرع للزّارع، ولزمه الكراء إلى انتهائه‏.‏

ونصّ على مثل هذا الحنفيّة‏.‏

‏(‏ر‏:‏ غرس - غصب‏)‏‏.‏

د - قلع عين الحيوان‏:‏

98 - الحيوان وإن كان من الأموال، وينبغي أن تطبّق في إتلافه - كلّيّاً أو جزئيّاً - القواعد العامّة، إلاّ أنّه ورد في السّمع تضمين ربع قيمته، بقلع عينه، ففي الحديث‏:‏ » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عين الدّابّة ربع ثمنها «‏.‏

وروي ذلك عن عمر وشريح رضي الله تعالى عنهما، وكتب عمر إلى شريح، لمّا كتب إليه يسأله عن عين الدّابّة‏:‏ إنّا كنّا ننزلها منزلة الآدميّ، إلاّ أنّه أجمع رأينا أنّ قيمتها ربع الثّمن‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ هذا إجماع يقدّم على القياس‏.‏

وهذا ممّا جعل الحنفيّة - وهو رواية عند الحنابلة عن أحمد - يعدلون عن القياس، بالنّظر إلى ضمان العين فقط‏.‏

فعملوا بالحديث، وتركوا فيه القياس، لكنّهم خصّوه بالحيوان الّذي يقصد للّحم، كما يقصد للرّكوب والحمل والزّينة أيضاً، كما في عين الفرس والبغل والحمار، وكذا في عين البقرة والجزور‏.‏

أمّا غيره، كشاة القصّاب المعدّة للذّبح، ممّا يقصد منه اللّحم فقط، فيعتبر ما نقصت قيمته‏.‏ وطرد المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة القياس، فضمّنوا ما يتلف من سائر أجزاء الحيوان، بما ينقص من قيمته، بفقد عينه وغيرها، بالغاً ما بلغ النّقص بلا تفرقة بين أنواع الحيوان‏.‏

قال المحلّيّ‏:‏ ويضمن ما تلف أو أتلف من أجزائه بما نقص من قيمته‏.‏

وقال الغزاليّ‏:‏ ولا يجب في عين البقرة والفرس إلاّ أرش النّقص‏.‏

وعلّل ذلك ابن قدامة‏:‏ بأنّه ضمان مال من غير جناية، فكان الواجب ما نقص، كالثّوب، ولأنّه لو فات الجميع لوجبت قيمته، فإذا فات منه شيء، وجب قدره من القيمة، كغير الحيوان‏.‏

ضمان الشّخص الضّرر النّاشئ عن فعل غيره وما يلتحق به

99 - الأصل أنّ الشّخص مسئول عن ضمان الضّرر الّذي ينشأ عن فعله لا عن فعل غيره لكن الفقهاء استثنوا من هذا الأصل ضمان أفعال القصّر الخاضعين لرقابته، وضمان أفعال تابعيه‏:‏ كالخدم والعمّال وكالموظّفين، وضمان ما يفسده الحيوان، وضمان الضّرر الحادث بسبب سقوط الأبنية، وضمان التّلف الحادث بالأشياء الأخرى، وتفصيله فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ ضمان الإنسان لأفعال الأشخاص الخاضعين لرقابته

100 - ويتمثّل هذا النّوع من الضّمان، في الأفعال الضّارّة، الصّادرة من الصّغار القصّر، الّذين هم في ولاية الأب والوصيّ، والتّلاميذ حينما يكونون في المدرسة، تحت رقابة النّاظر والمعلّم، أو في رعاية أيّ رقيب عليهم وهم صغار، ومثلهم المجانين والمعاتيه‏.‏ ولمّا كان الأصل المقرّر في الشّريعة، كما تقدّم آنفاً، هو ضمان الإنسان لأفعاله كلّها، دون تحمّل غيره عنه لشيء من تبعاتها، مهما كان من الأمر‏.‏

فقد طرد الفقهاء قاعدة تضمين الصّغار، وأوجبوا عليهم الضّمان في مالهم، ولم يوجبوا على أوليائهم والأوصياء عليهم ضمان ما أتلفوه، إلاّ في أحوال مستثناة، منها‏:‏

أ - إذا كان إتلاف الصّغار للمال، ناشئاً من تقصير الأولياء ونحوهم، في حفظهم، كما لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له، فوقع السّكّين من يده عليه أو على شخص آخر، أو عثر به، فإنّ الدّافع يضمن‏.‏

ب - إذا كان بسبب إغراء الآباء والأوصياء الصّغار بإتلاف المال، كما لو أمر الأب ابنه بإتلاف مال أو إيقاد نار، فأوقدها، وتعدّت النّار إلى أرض جاره، فأتلفت شيئاً، يضمن الأب، لأنّ الأمر صحّ، فانتقل الفعل إليه، كما لو باشره الأب‏.‏

فلو أمر أجنبيّ صبيّاً بإتلاف مال آخر، ضمن الصّبيّ، ثمّ رجع على آمره‏.‏

ج - إذا كان بسبب تسليطهم على المال، كما لو أودع صبيّاً وديعةً بلا إذن وليّه فأتلفها، لم يضمن الصّبيّ، وكذا إذا أتلف ما أعير له، وما اقترضه وما بيع منه بلا إذن، للتّسليط من مالكها‏.‏

ثانياً‏:‏ ضمان الشّخص لأفعال التّابعين له

101 - ويتمثّل هذا في الخادم في المنزل، والطّاهي في المطعم، والمستخدم في المحلّ، والعامل في المصنع، والموظّف في الحكومة، وفي سائق السّيّارة لمالكها كلّ في دائرة عمله‏.‏

والعلاقة هنا عقديّة، وفيما تقدّم من الرّقابة على عديمي التّمييز‏:‏ هي‏:‏ دينيّة أو أدبيّة‏.‏ والفقهاء بحثوا هذا في باب الإجارة، في أحكام الأجير الخاصّ، وفي تلميذ الأجير المشترك عند الحنفيّة، وهو الّذي يعمل لواحد عملاً مؤقّتاً بالتّخصيص، ويستحقّ أجره بتسليم نفسه في المدّة، وإن لم يعمل‏.‏

والمعقود عليه هو منفعته، ولا يضمن ما هلك في يده بغير صنعه، لأنّ العين أمانة في يده، لأنّه قبض بإذنه، ولا يضمن ما هلك من عمله المأذون فيه، لأنّ المنافع متى صارت مملوكةً للمستأجر، فإذا أمره بالتّصرّف في ملكه، صحّ، ويصير نائباً منابه، فيصير فعله منقولاً إليه، كأنّه فعله بنفسه، فلهذا لا يضمنه وإنّما الضّمان في ذلك على مخدومه‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إجارة‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ ضمان الشّخص فعل الحيوان

هناك نوعان من الحيوان‏:‏

أحدهما الحيوان العاديّ، والآخر الحيوان الخطر، وفي تضمين جناية كلّ منهما، خلاف بين الفقهاء، ونوضّحه فيما يلي‏:‏

أ - ضمان جناية الحيوان العاديّ غير الخطر‏:‏

102 - اختلف الفقهاء في ضمان ما يتلفه الحيوان العاديّ، غير الخطر‏:‏

فذهب جمهورهم إلى ضمان ما تفسده الدّابّة من الزّرع والشّجر، إذا وقع في اللّيل، وكانت وحدها إذا لم تكن يد لأحد عليها‏.‏

وأمّا إذا وقع ذلك في النّهار، ولم تكن يد لأحد عليها - أي الدّابّة - فلا ضمان فيه‏.‏ واستدلّوا بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه‏:‏ » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً، فأفسدت فيه، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهوعلى أهلها « قال ابن قدامة‏:‏ ولأنّ العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي، وحفظها ليلاً، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون اللّيل، فإذا ذهبت ليلاً كان التّفريط من أهلها، بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ‏.‏

وإن أتلفت نهاراً، كان التّفريط من أهل الزّرع، فكان عليهم، وقد فرّق النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى على كلّ إنسان بالحفظ في وقت عادته‏.‏

وقال - أيضاً -‏:‏ قال بعض أصحابنا‏:‏ إنّما يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً، إذا فرّط بإرسالها ليلاً أو نهاراً أو لم يضمّها باللّيل، أو ضمّها بحيث يمكنها الخروج، أمّا لو ضمّها فأخرجها غيره بغير إذنه، أو فتح عليها بابها، فالضّمان على مخرجها، أو فاتح بابها، لأنّه المتلف‏.‏

وقيّد المالكيّة عدم ضمان الإتلاف نهاراً بشرطين‏:‏

أوّلهما‏:‏ أن لا يكون معها راع‏.‏

والآخر‏:‏ أن تسرح بعيداً عن المزارع، وإلاّ فعلى الرّاعي الضّمان‏.‏

وإن أتلفت البهيمة غير الزّرع والشّجر من الأنفس والأموال، لم يضمنه مالكها، ليلاً كان أو نهاراً، ما لم تكن يده عليها، واستدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » العجماء جبار « ويروى » العجماء جرحها جبار « ومعنى جبار‏:‏ هدر‏.‏

وقيّد المالكيّة، عدم ضمان ذلك ليلاً، بما إذا لم يقصّر في حفظها، ولم يكن من فعل من معها، ففي المدوّنة‏:‏ من قاد قطاراً فهو ضامن لما وطئ البعير، في أوّل القطار أو آخره، وإن نفحت رجلاً بيدها أو رجلها، لم يضمن القائد إلاّ أن يكون ذلك من شيء فعله بها‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحيوان إذا أتلف مالاً أو نفساً، فلا ضمان على صاحبه مطلقاً، سواء أوقع ذلك في ليل أم في نهار‏.‏

وذلك لحديث‏:‏ » العجماء جبار « المتقدّم آنفاً‏.‏

لكن قيّدها محمّد بن الحسن، بالمنفلتة المسيّبة حيث تسيّب الأنعام، كما هو الشّأن في البراري، فهذه الّتي جرحها هدر وهذا ما ذكره الطّحاويّ فقد فرّق بين ما إذا كان معها حافظ فيضمن، وبين ما إذا لم يكن معها حافظ، فلا يضمن، وروى في ذلك آثاراً‏.‏

ولأنّه لا صنع له في نفارها وانفلاتها، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها، فالمتولّد منه لا يكون مضموناً‏.‏

وأثار المالكيّة - هنا - مسألة ما لو كان الحيوان ممّا لا يمكن الاحتراز منه، ولا حراسته كحمام، ونحل، ودجاج يطير‏.‏

فذهب ابن حبيب - وهو رواية مطرّف عن مالك - إلى أنّه يمنع أربابها من اتّخاذه، إن آذى النّاس‏.‏

وذهب ابن القاسم وابن كنانة وأصبغ إلى أنّهم لا يمنعون من اتّخاذه، ولا ضمان عليهم فيما أتلفته من الزّرع، وعلى أرباب الزّرع والشّجر حفظها‏.‏

وصوّب ابن عرفة الأوّل، لإمكان استغناء ربّها عنها، وضرورة النّاس للزّرع والشّجر‏.‏ ويؤيّده - كما قال الدّسوقيّ - قاعدة ارتكاب، أخفّ الضّررين عند التّقابل، لكن قال‏:‏ ولكن المعتمد - كما قال شيخنا - قول ابن قاسم‏.‏

والاتّجاهان كذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏

شروط ضمان جناية الحيوان

بدا ممّا تقدّم اتّفاق الفقهاء على تضمين جناية الحيوان، كلّما كان معها راكب أو حافظ، أو ذو يد، ولا بدّ حينئذ من توفّر شروط الضّمان العامّة المتقدّمة‏:‏ من الضّرر والتّعدّي والإفضاء‏.‏

103 - فالضّرر يستوي فيه الواقع على النّفوس أو الأموال، وصرّح العينيّ بأنّ حديث‏:‏ » العجماء جبار « المتقدّم، محتمل لأن تكون الجناية على الأبدان أو الأموال، وذكر أنّ الأوّل أقرب إلى الحقيقة، لما ورد في الصّحيحين بلفظ‏:‏ » العجماء جرحها جبار «‏.‏

104 - والتّعدّي بمجاوزة ذي اليد في استعمال الدّابّة، فحيث استعملها في حدود حقّه، في ملكه، أو المحلّ المعدّ للدّوابّ أو أدخلها ملك غيره بإذنه، فأتلفت نفساً أو مالاً، لا ضمان عليه إذ لا ضمان مع الإذن بخلاف ما لو كان ذلك بغير إذن المالك أو أوقفها في محلّ لم يعدّ لوقوف الحيوانات، أو في طريق المسلمين، فإنّه يكون ضامناً لما تتلفه حينئذ إذ كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه ضمن ما تولّد منه‏.‏

والأصل في هذا حديث النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل، فهو ضامن «‏.‏

ونصّت المجلّة في المادّة / 930 / على أنّه‏:‏ ‏"‏ لا يضمن صاحب الدّابّة الّتي أضرّت بيدها أو ذيلها أو رجلها، حال كونها في ملكه، راكباً كان أو لم يكن ‏"‏، كما نصّت المادّة /931 / على أنّه‏:‏ ‏"‏ إذا أدخل أحد دابّته في ملك غيره بإذنه، لا يضمن جنايتها، في الصّور الّتي ذكرت في المادّة آنفاً حيث إنّها تعدّ كالكائنة في ملكه، وإن كان أدخلها بدون إذن صاحبه يضمن ضرر تلك الدّابّة وخسارها على كلّ حال‏.‏

كما نصّت في المادّة / 939 / على أنّه‏:‏ ‏"‏ إذا ربط شخصان دابّتيهما في محلّ لهما حقّ الرّبط فيه، فأتلفت إحدى الدّابّتين الأخرى، لا يلزم الضّمان ‏"‏‏.‏

وفي النّصوص‏:‏ لو أوقفها على باب المسجد الأعظم، أو مسجد آخر، يضمن إلاّ إذا جعل الإمام للمسلمين موضعاً يوقفون دوابّهم فلا يضمن‏.‏

ولو ربط دابّته في مكان، ثمّ ربط آخر فيه دابّته، فعضّت إحداهما الأخرى، لا ضمان لو كان لهما في المربط ولاية الرّبط‏.‏

وعلّله الرّمليّ، نقلاً عن القاضي، بأنّ الرّبط جناية، فما تولّد منه ضمنه‏.‏

105 - وأمّا الإفضاء، وهو وصول الضّرر مباشرةً أو تسبّباً، فإنّ فعل الحيوان لا يوصف بمباشرة أو تسبيب، لأنّه ليس ممّا يصحّ إضافة الحكم إليه، وإنّما يوصف بذلك صاحبه، فتطبّق القاعدة العامّة‏:‏ أنّ المباشر ضامن وإن لم يتعدّ، والمتسبّب لا يضمن إلاّ بالتّعدّي‏.‏ ويعتبر ذو اليد على الحيوان، وصاحبه مباشراً إذا كان راكباً في ملكه أو في ملك غيره، ولو بإذنه أو في طريق العامّة، فيضمن ما يحدثه بتلفه، وإن لم يتعدّ‏.‏

فراكب الدّابّة يضمن ما وطئته برجلها، أو يدها - كما يقول الكاسانيّ - أي ومات لوجود الخطأ في هذا القتل، وحصوله على سبيل المباشرة لأنّ ثقل الرّاكب على الدّابّة، والدّابّة آلة له، فكان القتل الحاصل بثقلها مضافاً إلى الرّاكب، والرّديف والرّاكب سواء، وعليهما الكفّارة، ويحرمان من الميراث والوصيّة، لأنّ ثقلهما على الدّابّة، والدّابّة آلة لهما، فكانا قاتلين على طريق المباشرة‏.‏

ولو كدمت أو صدمت، فهو ضامن، ولا كفّارة ولا حرمان، لأنّه قتل بسبب‏.‏

ولو أصابت ومعها سائق وقائد، فلا كفّارة ولا حرمان، لأنّه قتل تسبيباً لا مباشرةً، بخلاف الرّاكب والرّديف‏.‏

وهذا خلاف ما في مجمع الأنهر، حيث نصّ على أنّ الرّاكب في ملكه لا يضمن شيئاً، لأنّه غير متعدّ، بخلاف ما إذا كان في طريق العامّة، فيضمن للتّعدّي‏.‏

ومثال ما لو أتلفت شيئاً بتسبيب صاحبها‏:‏ ما لو أوقفها في ملك غيره، فجالت في رباطها، حيث طال الرّسن فأتلفت شيئاً، ضمن، لأنّه ممسكها في أيّ موضع ذهبت، ما دامت في موضع رباطها‏.‏

فقد وجد شرط الضّمان بالتّسبيب بالتّعدّي، وهو الرّبط في ملك غيره‏.‏

ومثال اجتماع المباشرة والتّسبيب، حيث تقدّم المباشرة، ما لو ربط بعيراً إلى قطار، والقائد لا يعلم، فوطئ البعير المربوط إنساناً، فقتله، فعلى عاقلة القائد الدّية، لعدم صيانة القطار عن ربط غيره، فكان متعدّياً - مقصّراً - لكن يرجع على عاقلة الرّابط، لأنّه هو الّذي أوقعه في هذه العهدة‏.‏

وإنّما لم يجب الضّمان عليه ابتداءً، وكلّ منهما متسبّب، لأنّ الرّبط، من القود، بمنزلة التّسبيب من المباشرة، لاتّصال التّلف بالقود دون الرّبط‏.‏

ومثال ما إذا لم يكن مباشراً ولا متسبّباً، حيث لا يضمن، ما إذا قتل سنّوره حمامةً فإنّه لا يضمن، لحديث‏:‏ » العجماء جرحها جبار « المتقدّم آنفاً‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الهرّة إن أتلفت طيراً أو طعاماً ليلاً أونهاراً ضمن مالكها إن عهد ذلك منها، وإلاّ فلا يضمن في الأصحّ‏.‏

106 - ومن مشمولات الإفضاء‏:‏ التّعمّد، كما لو ألقى هرّةً على حمامة أو دجاجة، فأكلتها ضمن لو أخذتها برميه وإلقائه، لا لو بعده‏.‏

ويضمن بإشلاء كلبه، لأنّه بإغرائه يصير آلةً لعقره، فكأنّه ضربه بسيفه‏.‏

ومن مشمولاته التّسبّب بعدم الاحتراز‏:‏ فالأصل‏:‏ أنّ المرور بطريق المسلمين مباح، بشرط السّلامة، فيما يمكن الاحتراز منه، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه، فلو أوقف دابّته في الطّريق ضمن ما نفحته، لأنّ بإمكانه الاحتراز من الإيقاف، وإن لم يمكن الاحتراز من النّفحة، فصار متعدّياً بالإيقاف وشغل الطّريق به‏.‏

بخلاف ما لو أصابت بيدها أو رجلها حصاةً، أو أثارت غباراً، ففقأت الحصاة عين إنسان، أو أفسد الغبار ثوب إنسان فإنّه لا يضمن لأنّه لا يمكن الاحتراز منه، لأنّ سير الدّوابّ لا يخلو عنه‏.‏

وللحنابلة والشّافعيّة تفصيل وخلاف في الطّريق الواسع‏.‏

وجاء في المجلّة المادّة / 934 / ‏"‏ ليس لأحد حقّ توقيف دابّته أو ربطها في الطّريق العامّ‏"‏‏.‏ ومن مشمولاته التّسبّب بالتّقصير، ومن الفروع‏:‏ ما لو رأى دابّته تأكل حنطةً غيره، فلم يمنعها، حتّى أكلتها، فالصّحيح أنّه يضمن‏.‏

وبهذا أخذت المجلّة، حيث نصّت على أنّه ‏"‏ لو استهلك حيوان مال أحد، ورآه صاحبه، فلم يمنعه يضمن ‏"‏‏.‏ المادّة / 929 /‏.‏

107 - والضّامن لجناية الحيوان، لم يقيّد في النّصوص الفقهيّة، بكونه مالكاً أو غيره، بل هو ذو اليد، القابض على زمامه، القائم على تصريفه، ولو لم يكن مالكاً، ولو لم يحلّ له الانتفاع به، ويشمل هذا السّائس والخادم‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ إنّ الضّمان يجب في مال الّذي هو معها، سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً، أو غاصباً أو مودعاً، أو وكيلاً أو غيره‏.‏

ويقول الشّرقاويّ في جناية الدّابّة‏:‏ لا تتعلّق برقبتها، بل بذي اليد عليها‏.‏

108 - ولو تعدّد واضعو اليد على الحيوان، فالضّمان - فيما يبدو من النّصوص - على الأقوى يداً، والأكثر قدرةً على التّصرّف، وعند الاستواء يكون الضّمان عليهما‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ وإن كان أحدهما سائقاً، والآخر قائداً، فالضّمان عليهما لأنّهما اشتركا في التّسبيب، فيشتركان في الضّمان، وكذلك إذا كان أحدهما سائقاً والآخر راكباً أو كان أحدهما قائداً والآخر راكباً، فالضّمان عليهما، لوجود سبب الضّمان من كلّ واحد منهما، إلاّ أنّ الكفّارة تجب على الرّاكب وحده، فيما لو وطئت دابّته إنساناً فقتلته، لوجود القتل منه وحده مباشرةً، وإن كان الحصكفيّ صحّح عدم تضمين السّائق، لأنّ الإضافة إلى المباشر أولى، لكن السّبب - هنا - ممّا يعمل بانفراده، فيشتركان كما حقّقه ونقله ابن عابدين‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ فإن كان على الدّابّة راكبان، فالضّمان على الأوّل منهما، لأنّه المتصرّف فيها، القادر على كفّها، إلاّ أن يكون الأوّل منهما صغيراً أو مريضاً أو نحوهما، ويكون الثّاني المتولّي لتدبيرها، فيكون الضّمان عليه‏.‏

وإن كان مع الدّابّة قائد وسائق، فالضّمان عليهما، لأنّ كلّ واحد منهما لو انفرد ضمن، فإذا اجتمعا ضمنا، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ الضّمان عليهما جميعاً، لذلك‏.‏

والآخر‏:‏ أنّه على الرّاكب، لأنّه أقوى يداً وتصرّفاً‏.‏

ويحتمل أن يكون على القائد لأنّه لا حكم للرّاكب على القائد‏.‏

ب - ضمان جناية الحيوان الخطر‏:‏

109 - ويتمثّل في الكبش النّطوح، والجمل العضوض، والفرس الكدوم، والكلب العقور، كما يتمثّل في الحشرات المؤذية، والحيّة والعقرب، والحيوانات الوحشيّة المفترسة، وسباع البهائم، كالأسد والذّئب، وسباع الطّير كالحدأة والغراب، وفيها مذاهب للفقهاء‏:‏ مذهب الحنفيّة هو ضمان ما يتلفه الحيوان الخطر، من مال أو نفس إذا وجد من مالكه إشلاء أو إغراء أو إرسال، وهو قول أبي يوسف، الّذي أوجب الضّمان في هذا كلّه، احتياطاً لأموال النّاس خلافاً لأبي حنيفة، والّذي أفتوا به هو‏:‏ الضّمان بعد الإشلاء كالحائط المائل، في النّفس والمال كما في الإغراء‏.‏

وعلّل الضّمان بالإشلاء، بأنّه بالإغراء‏.‏ يصير الكلب آلةً لعقره، فكأنّه ضربه بحدّ سيفه‏.‏ وفي مذهب مالك تفصيل ذكره الدّسوقيّ، وهو‏:‏ إذا اتّخذ الكلب العقور، بقصد قتل إنسان معيّن وقتله فالقود، أنذر عن اتّخاذه أو لا‏.‏

وإن قتل غير المعيّن فالدّية، وكذلك إن اتّخذه لقتل غير المعيّن، وقتل شخصاً فالدّية، أنذر أم لا‏.‏

وإن اتّخذه لوجه جائز فالدّية إن تقدّم له إنذار قبل القتل، وإلاّ فلا شيء عليه‏.‏

وإن اتّخذه لا لوجه جائز ضمن ما أتلف، تقدّم له فيه إنذار أم لا، حيث عرف أنّه عقور، وإلاّ لم يضمن، لأنّ فعله حينئذ كفعل العجماء‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الحيوان الخطر ينبغي أن يربط ويكفّ شرّه، كالكلب العقور، وكالسّنّور إذا عهد منه إتلاف الطّير أو الطّعام، فإذا أطلق الكلب العقور أو السّنّور، فعقر إنساناً، أو أتلف طعاماً أو ثوباً، ليلاً أو نهاراً، ضمن ما أتلفه، لأنّه مفرّط باقتنائه وإطلاقه إلاّ إذا دخل داره إنسان بغير إذنه، فعقره، فلا ضمان عليه، لأنّه متعدّ بالدّخول، متسبّب بعدم الاستئذان لعقر الكلب له، فإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه، لأنّه تسبّب إلى إتلافه‏.‏

وكذلك إذا اقتنى سنّوراً، يأكل أفراخ النّاس، ضمن ما أتلفه كالكلب العقور، وهذا - هو الأصحّ - عند الشّافعيّة، كلّما عهد ذلك منه ليلاً أو نهاراً، قال المحلّيّ‏:‏ لأنّ هذه الهرّة ينبغي أن تربط ويكفّ شرّها‏.‏

أمّا ما يتلفه الكلب العقور لغير العقر، كما لو ولغ في إناء، أو بال، فلا يضمن، لأنّ هذا لا يختصّ به الكلب العقور‏.‏

رابعاً‏:‏ ضمان سقوط المباني

110 - بحث الفقهاء موضوع سقوط المباني وضمانها بعنوان‏:‏ الحائط المائل‏.‏

ويتناول القول في ضمان الحائط، ما يلحق به، من الشّرفات والمصاعد والميازيب والأجنحة، إذا شيّدت مطلّةً على ملك الآخرين أو الطّريق العامّ وما يتّصل بها من أحكام‏.‏ وقد ميّز الفقهاء، بين ما إذا كان البناء، أو الحائط أو نحوه، مبنيّاً من الأصل متداعياً ذا خلل، أو مائلاً، وبين ما إذا كان الخلل طارئاً، فهما حالتان‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ الخلل الأصليّ في البناء

111 - هو الخلل الموجود في البناء، منذ الإنشاء، كأن أنشئ مائلاً إلى الطّريق العامّ أو أشرع الجناح أو الميزاب أو الشّرفة، بغير إذن، أو أشرعه في غير ملكه‏.‏

قال الحنفيّة والمالكيّة إن سقط البناء في هذه الحال، فأتلف إنساناً أو حيواناً أو مالاً، كان ذلك مضموناً على صاحبه، مطلقاً من غير تفصيل، ومن غير إشهاد ولا طلب، لأنّ في البناء تعدّياً ظاهراً ثابتاً منذ الابتداء وذلك بشغل هواء الطّريق بالبناء، وهواء الطّريق كأصل الطّريق حقّ المارّة، فمن أحدث فيه شيئاً، كان متعدّياً ضامناً‏.‏

والشّافعيّة لا يفرّقون في الضّمان، بين أن يأذن الإمام في الإشراع أو لا، لأنّ الانتفاع بالشّارع مشروط بسلامة العاقبة، بأن لا يضرّ بالمارّة، وما تولّد منه مضمون، وإن كان إشراعاً جائزاً‏.‏

لكن ما تولّد من الجناح، في درب منسدّ، بغير إذن أهله، مضمون، وبإذنهم لا ضمان فيه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ وإذا بنى في ملكه حائطاً مائلاً إلى الطّريق، أو إلى ملك غيره، فتلف به شيء أو سقط على شيء فأتلفه ضمنه، لأنّه متعدّ بذلك، فإنّه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره، أو هواء مشترك، ولأنّه يعرّضه للوقوع على غيره في غير ملكه، فأشبه ما لو نصب فيه منجلاً يصيد به‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ الخلل الطّارئ

112 - إذا أنشئ البناء مستقيماً ثمّ مال، أو سليماً ثمّ تشقّق ووقع، وحدث بسبب وقوعه تلف، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة - استحساناً - والمالكيّة، وهو المختار عند الحنابلة، والمرويّ عن عليّ رضي الله عنه وشريح والنّخعيّ والشّعبيّ وغيرهم من التّابعين إلى أنّه يضمن ما تلف به، من نفس أو حيوان أو مال، إذا طولب صاحبه بالنّقض، وأشهد عليه، ومضت مدّة يقدر على النّقض خلالها، ولم يفعل‏.‏

وهذا قول عند الشّافعيّة، فقد قالوا‏:‏ إن أمكنه هدمه أو إصلاحه، ضمن، لتقصيره بترك النّقض والإصلاح‏.‏

والقياس عند الحنفيّة عدم الضّمان، لأنّه لم يوجد من المالك صُنْعٌ هو تعدّ، لأنّ البناء كان في ملكه مستقيماً، والميلان وشغل الهواء ليس من فعله، فلا يضمن، كما إذا لم يشهد عليه، ولما قالوه في هذه المسألة‏:‏ ومن قتله الحجر، بغير فعل البشر، فهو بالإجماع هدر‏.‏

ووجه الاستحسان‏:‏ ما روي عن الأئمّة من الصّحابة والتّابعين المذكورين، وأنّ الحائط لمّا مال فقد شغل هواء الطّريق بملكه، ورفعه بقدرة صاحبه، فإذا تقدّم إليه وطولب بتفريغه لزمه ذلك، فإذا امتنع مع تمكّنه صار متعدّياً‏.‏

ولأنّه لو لم يضمن يمتنع من الهدم، فينقطع المارّة خوفاً على أنفسهم، فيتضرّرون به، ودفع الضّرر العامّ من الواجب، وكم من ضرر خاصّ يتحمّل لدفع العامّ‏.‏

ومع ذلك فقد نصّ الحنفيّة على أنّ الشّرط هو التّقدّم، دون الإشهاد، لأنّ المطالبة تتحقّق، وينعدم به معنى العذر في حقّه، وهو الجهل بميل الحائط‏.‏

أمّا الإشهاد فللتّمكّن من إثباته عند الإنكار، فكان من باب الاحتياط‏.‏

والمالكيّة يشترطون الإشهاد مع الإنذار، فإذا انتفى الإنذار والإشهاد فلا ضمان، إلاّ أن يعترف بذلك مع تفريطه فيضمن، كما أنّ الإشهاد المعتبر عندهم يكون عند الحاكم، أو جماعة المسلمين ولو مع إمكان الإشهاد عند الحاكم‏.‏

113 - وشروط التّقدّم أو الإنذار هي‏:‏ ومعنى التّقدّم‏:‏ طلب النّقض ممّن يملكه، وذلك بأن يقول المتقدّم‏:‏ إنّ حائطك هذا مخوف، أو يقول‏:‏ مائل فانقضه أو اهدمه، حتّى لا يسقط ولا يتلف شيئاً، ولو قال‏:‏ ينبغي أن تهدمه، فذلك مشورة‏.‏

أ - أن يكون التّقدّم ممّن له حقّ مصلحة في الطّلب‏.‏

وفرّقوا في هذا‏:‏ بين ما إذا كان الحائط مائلاً إلى الطّريق العامّ، وبين ما إذا كان مائلاً إلى ملك إنسان‏.‏

ففي الصّورة الأولى‏:‏ يصحّ التّقدّم من كلّ مكلّف، مسلم أو غيره، وليس للمتقدّم ولا للقاضي حقّ إبراء صاحب الحائط، ولا تأخيره بعد المطالبة، لأنّه حقّ العامّة، وتصرّفه في حقّ العامّة نافذ - كما يقول الحصكفيّ نقلاً عن الذّخيرة - فيما ينفعهم، لا فيما يضرّهم‏.‏ وفي الصّورة الثّانية‏:‏ لا يصحّ التّقدّم إلاّ من المالك الّذي شغل الحائط هواء ملكه، كما أنّ له حقّ الإبراء والتّأخير‏.‏

بل نصّت المجلّة في المادّة / 928 / على أنّه لو كان الحائط مائلاً إلى الطّريق الخاصّ، يلزم أن يكون الّذي تقدّم ممّن له حقّ المرور في ذلك الطّريق‏.‏

ب - أن يكون الطّلب قبل السّقوط بمدّة يقدر على النّقض خلالها، لأنّ مدّة التّمكّن من إحضار الأجراء مستثناة في الشّرع‏.‏

ج - أن يكون التّقدّم بعد ميل الحائط، فلو طلب قبل الميل لم يصحّ، لعدم التّعدّي‏.‏

د - أن يكون التّقدّم إلى من يملك النّقض، كالمالك ووليّ الصّغير، ووصيّه ووصيّ المجنون، والرّاهن، وكذا الواقف والقيّم على الوقف وأحد الشّركاء، بخلاف المرتهن والمستأجر والمودع، لأنّهم ليست لهم قدرة على التّصرّف، فلا يفيد طلب النّقض منهم، ولا يعتبر فيهم الإنذار كما قال الدّردير، ولهذا لا يضمنون ما تلف من سقوطه، بل قال الحصكفيّ‏:‏ لا ضمان أصلاً على ساكن ولا مالك‏.‏

ومحلّ هذه الشّروط - كما قال الدّسوقيّ‏:‏ إذا كان منكراً للميلان، أمّا إذا كان مقرّاً به فلا يشترط ذلك‏.‏

114 - وذهب الشّافعيّة إلى عدم الضّمان مطلقاً بسقوط البناء، إذا مال بعد بنائه مستقيماً ولو تقدّم إليه، وأشهد عليه‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ إن لم يتمكّن من هدمه وإصلاحه، فلا ضمان قطعاً، وكذا إن تمكّن على الأصحّ‏.‏ ولا فرق بين أن يطالبه الوالي أو غيره بالنّقض، وبين أن لا يطالب، وهذا هو القياس، كما تقدّم، ووجهه‏:‏ أنّه بنى في ملكه، والهلاك حصل بغير فعله، وأنّ الميل نفسه لم يحصل بفعله، وأنّ ما كان أوّله غير مضمون، لا ينقلب مضموناً بتغيير الحال‏.‏ وذهب بعض الحنابلة، وهو قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وإسحاق، إلى أنّه يضمن ما تلف به وإن لم يطالب بالنّقض، وذلك لأنّه متعدّ بتركه مائلاً، فضمن ما تلف به، كما لو بناه مائلاً إلى ذلك ابتداءً، ولأنّه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف، ولو لم يكن ذلك موجباً للضّمان لم يضمن بالمطالبة، كما لو لم يكن مائلاً، أو كان مائلاً إلى ملكه‏.‏

لكن نصّ أحمد، هو عدم الضّمان - كما يقول ابن قدامة - أمّا لو طولب بالنّقض، فقد توقّف فيه أحمد، وذهب بعض الأصحاب إلى الضّمان فيه‏.‏

أمّا الضّمان الواجب بسقوط الأبنية، عند القائلين به، فهو‏:‏

أ - أنّ ما تلف به من النّفوس، ففيه الدّية على عاقلة مالك البناء‏.‏

ب - وما تلف به من الأموال فعلى مالك البناء، لأنّ العاقلة لا تعقل المال‏.‏

ج - ولا تجب على المالك الكفّارة - عند الحنفيّة - ولا يحرم من الميراث والوصيّة، لأنّه قتل بسبب، وذلك لعدم القتل مباشرةً، وإنّما ألحق بالمباشر في الضّمان، صيانةً للدّم عن الهدر، على خلاف الأصل، فبقي في الكفّارة وحرمان الميراث على الأصل‏.‏

وعند الشّافعيّة والجمهور‏:‏ هو ملحق بالخطأ في أحكامه، إذ لا قتل بسبب عندهم، ففيه الكفّارة، وفيه الحرمان من الميراث والوصيّة، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل‏.‏

خامساً‏:‏ ضمان التّلف بالأشياء

115 - أكثر ما يعرض التّلف بالأشياء، بسبب إلقائها في الطّرقات والشّوارع، أو بسبب وضعها في غير مواضعها المخصّصة لها‏.‏

ويمكن تقسيم الأشياء إلى خطرة، وغير خطرة، أي عاديّة‏.‏

القسم الأوّل‏:‏ ضمان التّلف الحاصل بالأشياء العاديّة غير الخطرة

116 - يردّ الفقهاء مسائل التّلف الحاصل بالأشياء العاديّة، غير الخطرة، إلى هذه القواعد والأصول‏:‏

الأوّل‏:‏ كلّ موضع يجوز للواضع أن يضع فيه أشياءه لا يضمن ما يترتّب على وضعها فيه من ضرر، لأنّ الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان‏.‏

الثّاني‏:‏ كلّ موضع لا يجوز له أن يضع فيه أشياءه يضمن ما ينشأ عن وضعها فيه من أضرار، ما دامت في ذلك الموضع، فإن زالت عنه لم يضمن‏.‏

الثّالث‏:‏ كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه، ضمن ما تولّد عنه من ضرر‏.‏

الرّابع‏:‏ أنّ المرور في طريق المسلمين مباح، بشرط السّلامة فيما يمكن الاحتراز عنه‏.‏ الخامس‏:‏ أنّ المتسبّب ضامن إذا كان متعدّياً، وإلاّ لا يضمن، والمباشر ضامن مطلقاً‏.‏ ومن الفروع الّتي انبثقت منها هذه الأصول‏:‏

أ - من وضع جرّةً أو شيئاً في طريق لا يملكه فتلف به شيء ضمن، ولو زال ذلك الشّيء الموضوع أوّلاً إلى موضع آخر - غير الطّريق - فتلف به شيء، برئ واضعه ولم يضمن‏.‏

ب - لو قعد في الطّريق ليبيع، فتلف بقعدته شيء‏:‏ فإن كان قعد بإذن الإمام لا يضمنه، وإن كان بغير إذنه يضمنه وللحنابلة قولان في الضّمان‏.‏

ج - ولو وضع جرّةً على حائط، فأهوت بها الرّيح، وتلف بوقوعها شيء، لم يضمن، إذ انقطع أثر فعله بوضعه، وهو غير متعدّ في هذا الوضع بأن وضعت الجرّة وضعاً مأموناً، فلا يضاف إليه التّلف‏.‏

د - لو حمل في الطّريق شيئاً على دابّته أو سيّارته، فسقط المحمول على شيء فأتلفه أو اصطدم بشيء فكسره، ضمن الحامل، لأنّ الحمل في الطّريق مباح بشرط السّلامة، ولأنّه أثر فعله‏.‏

ولو عثر أحد بالحمل ضمن، لأنّه هو الواضع، فلم ينقطع أثر فعله‏.‏

هـ – لو ألقى في الطّريق قشراً، فزلقت به دابّة، ضمن، لأنّه غير مأذون فيه، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة، ومقابل الصّحيح عندهم‏:‏ أنّه غير مضمون، لجريان العادة بالمسامحة في طرح ما ذكر‏.‏

وكذا لو رشّ في الطّريق ماءً، فتلفت به دابّة، ضمن، وقال القليوبيّ‏:‏ إنّه غير مضمون إذا كان لمصلحة عامّة، ولم يجاوز العادة، وإلاّ فهو مضمون على الرّاشّ، لأنّه المباشر‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ ضمان التّلف بالأشياء الخطرة

117 - روى أبو موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم » إذا مرّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا، ومعه نبل، فليمسك على نصالها - أو قال‏:‏ فليقبض بكفّه - أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء «‏.‏

وفي الفروع‏:‏ لو انفلتت فأس من يد قصّاب، كان يكسر العظم، فأتلف عضو إنسان، يضمن، وهو خطأ‏.‏

ولا تعليل للضّمان في هذه المسألة إلاّ التّقصير في رعاية هذه الآلة الحادّة، وعدم الاحتراز أثناء الاستعمال، فاستدلّ بوقوع الضّرر على التّعدّي، وأقيم مقامه‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ ذا اليد على الأشياء الخطرة يضمن من الأضرار المترتّبة عليها ما كان بفعله، ولا يضمن ما كان بغير فعله‏.‏ ومن نصوصهم‏:‏

أ - لو خرج البارود من البندقيّة بفعله، فأصاب آدميّاً أو مالاً ضمن، قياساً على ما لو طارت شرارة من ضرب الحدّاد، فأصابت ثوب مارّ في الطّريق، ضمن الحدّاد‏.‏

ب - ولو هبّت الرّيح فحملت ناراً، وألقتها على البندقيّة، فخرج البارود، لا ضمان‏.‏

ج - ولو وقع الزّند المتّصل بالبندقيّة المجرّبة، الّتي تستعمل في زماننا، على البارود بنفسه، فخرجت رصاصتها، أو ما بجوفها، فأتلف مالاً أو آدميّاً، فإنّه لا ضمان‏.‏